فصل: سنة أربع عشرة وخمسمائة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر غزاة إيلغازي بلاد الفرنج:

في هذه السنة سار الفرنج من بلادهم إلى نواحي حلب، فملكوا بزاعة وغيرها، وخربوا بلد حلب ونازلوها، ولم يكن بحلب من الذخائر ما يكفيها شهراً واحداً، وخافهم أهلها خوفاً شديداً، ولوا مكنوا من القتال لم يبق بها أحد، لكنهم منعوا من ذلك، وصانع الفرنج أهل حلب على أن يقاسموهم على أملاكهم التي بباب حلب. فأرسل أهل البلد إلى بغداد يستغيثون، ويطلبون النجدة، فلم يغاثوا.
وكان الأمير إيلغازي، صاحب حلب، ببلد ماردين يجمع العساكر والمتطوعة للغزاة، فاجتمع عليه نحو عشرين ألفاً، وكان معه أسامة بن المبارك بن شبل الكلابي، والأمير طغان أرسلان بن المكر، صاحب بدليس وأرزن، وسار بهم إلى الشام، عازماً على قتال الفرنج.
فلما علم الفرنج قوة عزمهم على لقائهم، وكانوا ثلاثة آلاف فارس، وتسعة آلاف راجل، ساروا فنزلوا قريباً من الأثارب، بموضع يقال له تل عفرين، بين جبال ليس لها طريق إلا من ثلاث جهات، وفي هذا الموضع قتل شرف الدولة مسلم بن قريش.
وظن الفرنج أن أحداً لا يسلك إليهم لضيق الطريق، فأخلدوا إلى المطاولة، وكانت عادة لهم، إذا رأوا قوة من المسلمين، وراسلوا إيلغازي يقولون له: لا تتعب نفسك بالمسير إلينا، فنحن واصلون إليك، فأعلم أصحابه بما قالوه، واستشارهم فيما يفعل، فأشاروا بالركوب من وقته، وقصدهم، ففعل ذلك، وسار إليهم، ودخل الناس من الطرق الثلاثة، ولم تعتقد الفرنج أن أحداً يقدم عليهم، لصعوبة المسلك إليهم، فلم يشعروا إلا وأوائل المسلمين قد غشيتهم، فحمل الفرنج حملة منكرة، فولوا منهزمين، فلقوا باقي العسكر متتابعة، فعادوا معهم، وجرى بينهم حرب شديدة، وأحاطوا بالفرنج من جميع جهاتهم، وأخذهم السيف من سائر نواحيهم، فلم يفلت منهم غير نفر يسير، وقتل الجميع، وأسروا.
وكان من جملة الأسرى نيف وسبعون فارساً من مقدميهم، وحملوا إلى حلب، فبذلوا في نفوسهم ثلاثمائة ألف دينار، فلم يقبل منهم، وغنم المسلمون منهم الغنائم الكثيرة.
وأما سيرجال، صاحب أنطاكية، فإنه قتل وحمل رأسه، وكانت الوقعة منتصف شهر ربيع الأول، فمما مدح به إيلغازي في هذه الوقعة قول العظيمي:
قل ما تشاء، فقولك المقبول، ** وعليك بعد الخالق التعويل

واستبشر القرآن حين نصرته، ** وبكى لفقد رجاله الإنجيل

ثم تجمع من سلم من المعركة مع غيرهم، فلقيهم إيلغازي أيضاً، فهزمهم، وفتح منهم حصن الأثارب، وزردنا، وعاد إلى حلب، وقرر أمرها، وأصلح حالها، ثم عبر الفرات إلى ماردين.

.ذكر وقعة أخرى من الفرنج:

في هذه السنة سار جوسلين، صاحب تل باشر، في جمع من الفرنج، نحو مائتي فارس، من طبرية، فكبس طائفة من طي يعرفون ببني خالد، فأخذهم، وأخذ غنائمهم، وسألهم عن بقية قومهم من بني ربيعة، فأخبروه أنهم من وراء الحزن، بوادي السلالة، بين دمشق وطبرية، فقدم جوسلين مائة وخمسين فارساً من أصحابه، وسار هو في خمسين فارساً على طريق آخر، وواعدهم الصبح ليكبسوا بني ربيعة، فوصلهم الخبر بذلك، فأرادوا الرحيل، فمنعهم أميرهم من بني ربيعة، وكانوا في مائة وخمسين فارساً، فوصلهم المائة وخمسون من الفرنج، معتقدين أن جوسلين قد سبقهم أو سيدركهم، فضل الطريق، وتساوت العدتان، فاقتتلوا، وطعنت العرب خيولهم، فجعلوا أكثرهم رجالة، وظهر من أميرهم شجاعة، وحسن تدبير، وجودة رأي، فقتل من الفرنج سبعون، وأسر اثنا عشر من مقدميهم، بذل كل واحد منهم في فداء نفسه مالاً جزيلاً وعدة من الأسرى.
وأما جوسلين فإنه ضل في الطريق، وبلغه خبر الوقعة، فسار إلى طرابلس، فجمع جمعاً، وأسرى إلى عسقلان، فأغار على بلدها، فهزمه المسلمون هناك، فعاد مفلولاً.

.ذكر قتل منكوبرس:

في هذه السنة قتل الأمير منكوبرس الذي كان شحنة بغداد، وقد تقدم حاله.
وكان سبب قتله: أنه لما انهزم مع السلطان محمود وعاد إلى بغداد، ونهب عدة مواضع من طريق خراسان، وأراد دخول بغداد، فسير إليه دبيس بن صدقة من منعه، فعاد وقد استقر الصلح بين السلطانين سنجر ومحمود، فقصد السلطان سنجر، فدخل إليه ومعه سيف وكفن، فقال له: أنا لا أؤاخذ أحداً، وسلمه إلى السلطان محمود، وقال: هذا مملوكك، فاصنع به ما تريد! فأخذه.
وكان في نفسه منه غيظ شديد لأسباب منها: أنه لما توفي السلطان محمد أخذ سريته، والدة الملك مسعود، قهراً، قبل انقضاء عدتها، ومنها: جرأته عليه، واستبداده بالأمور دونه، ومسيره إلى شحنكية بغداد، والسلطان كاره لذلك لكنه لم يقدر على منعه، ومنها: ما فعله بالعراق من الظلم، إلى غير ذلك، فقتله صبراً، وأراح العباد والبلاد من شره.

.ذكر قتل الأمير علي بن عمر:

في هذه السنة أيضاً قتل الأمير علي بن عمر، حاجب السلطان محمد، وكان قد صار أكبر أمير مع السلطان محمود، وانقادت العساكر له، فحسده الأمراء، وأفسدوا حاله مع السلطان محمود، وحسنوا له قتله، فعلم، فهرب إلى قلعة برجين، وهي بين بروجرد وكرج، وكان بها أهله وماله، وسار منها في مائتي فارس إلى خوزستان، وكانت بيد أقبوري بن برسق، وابني أخويه: أرغلي بن يلبكي، وهندو بن زنكي، فأرسل إليهم وأخذ عهودهم بأمانه وحمايته.
فلما سار إليهم أرسلوا عسكراً منعوه من قصدهم، فلقوه على ستة فراسخ من تستر، فاقتتلوا، فانهزم هو وأصحابه، فوقف به فرسه، فانتقل إلى غيره، فتشبث ذيله بسرجه الأول، فأزاله، فعاود التعلق، فأبطأ، فأدركوه وأسروه، وكاتبوا السلطان محموداً في أمره، فأمرهم بقتله، فقتل وحمل رأسه إليه.

.ذكر الفتنة بين المرابطين وأهل قرطبة:

في هذه السنة، وقيل سنة أربع عشرة، كانت فتنة بني عسكر أمير المسلمين علي بن يوسف وبين أهل قرطبة.
وسببها: أن أمير المسلمين استعمل عليها أبا بكر يحيى بن رواد، فلما كان يوم الأضحى خرج الناس متفرجين، فمد عبد من عبيد أبي بكر يده إلى امرأة فأمسكها، فاستغاثت بالمسلمين، فأغاثوها، فوقع بين العبيد وبين أهل البلد فتنة عظيمة، ودامت جميع النهار، والحرب بينهم قائمة على ساق، فأدركهم الليل، فتفرقوا، فوصل الخبر إلى الأمير أبي بكر، فاجتمع إليه الفقهاء والأعيان، فقالوا: المصلحة أن تقتل واحداً من العبيد الذين أثاروا الفتنة، فأنكر ذلك، وغضب منه، وأصبح من الغد، وأظهر السلاح والعدد يريد قتال أهل البلد، فركب الفقهاء والأعيان والشبان من أهل البلد، وقاتلوه فهزموه، وتحصن بالقصر، فحصروه، وتسلقوا إليه، فهرب منهم بعد مشقة وتعب، فنهبوا القصر، وأحرقوا جميع دور المرابطين، ونهبوا أموالهم، وأخرجوهم من البلد على أقبح صورة.
واتصل الخبر بأمير المسلمين فكره ذلك واستعظمه، وجمع العساكر من صنهاجة، وزناتة، والبربر، وغيرهم، فاجتمع له منهم جمع عظيم، فعبر إليهم سنة خمس عشرة وخمسمائة، وحصر مدينة قرطبة، فقاتله أهلها قتال من يريد أن يحمي دمه وحريمه وماله، فلما رأى أمير المسلمين شدة قتالهم دخل السفراء بينهم، وسعوا في الصلح، فأجابهم إلى ذلك على أن يغرم أهل قرطبة المرابطين ما نهبوه من أموالهم، واستقرت القاعدة على ذلك، وعاد عن قتالهم.

.ذكر ملك علي بن سكمان البصرة:

في هذه السنة استولى علي بن سكمان على البصرة.
وسبب ذلك: أن السلطان محمداً كان قد أقطع البصرة الأمير آقسنقر البخاري، فاستخلف بها نائباً يعرف بسنقر البياتي، فأحسن السيرة إلى حد أن الماء بالبصرة ملح، فأقام سفناً وجراراً للضعفاء والسابلة، تحمل لهم الماء العذب. فلما توفي السلطان محمد عزم هذا الأمير سنقر على القبض على أمير اسمه غزغلي، مقدم الأتراك الإسماعيلية، وهو مذكور، وحج بالناس على البصرة عدة سنين، وعلى أمير آخر اسمه سنقر ألب، وهو مقدم الأتراك البلدقية، فاجتمعا عليه، وقبضاه وقيداه، وأخذا القلعة وما وجداه له.
ثم إن سنقر ألب أراد قتله، فمنعه غزغلي، فلم يقبل منه، فلما قتله وثب غزغلي على سنقر ألب فقتله، ونادى في الناس بالسكون، واطمأنوا.
وكان أمير الحاج من البصرة هذه السنة، أمير اسمه علي بن سكمان أحد الأمراء البلدقية، وكان في نفس غزغلي عليه حقد، حيث تم الحج على يده، ولأنه خاف أن يأخذ بثأر سنقر ألب، إذ هو مقدم البلدقية، فأرسل غزغلي إلى عرب البرية يأمرهم بقصد الحجاج ونهبهم، فطمعوا بذلك، وقصدوا الحجاج فقاتلوهم، وحماهم ابن سكمان، وأبلى بلاء حسناً، وجعل يقاتلهم وهو سائر نحو البصرة إلى أن بقي بينه وبين البصرة يومان، فأرسل إليه غزغلي يمنعه من قصد البصرة، فقصد العوني، أسفل دجلة، هذا، والعرب يقاتلونه، فلما وصل إلى العوني حمل على العرب حملة صادقة، فهزمهم.
وسار غزغلي إلى علي بن سكمان في عدد كثير، وكان علي في قلة، فتحاربا، واقتتلت الطائفتان، فأصابت فرس غزغلي نشابة فسقط وقتل، وسار علي إلى البصرة، فدخلها، وملك القلعة، وأقر عمال آقسنقر البخاري ونوابه، وكاتبه بالطاعة، وكان عند السلطان، وسأله أن يكون نائباً عنه بالبصرة، فلم يجبه آقسنقر إلى ذلك، فطرد حينئذ نواب آقسنقر، واستولى على البلد، وتصرف تصرُّف الأصحاب، مستبداً، واستقر فيه، وأحسن السيرة إلى سنة أربع عشرة، فسير السلطان محمود الأمير آقسنقر البخاري في عسكر إلى البصرة، فأخذها من علي بن سكمان.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة أمر السلطان سنجر بإعادة مجاهد الدين بهروز سجنكية العراق، وكان بها نائب دبيس بن صدقة، فعزل عنها.
وفيها، في ربيع الأول، توفي الوزير ربيب الدولة، وزير السلطان محمود، ووزر بعده الكمال السميرمي، وكان ولد ربيب الدولة، وزير المسترشد، فعزل، واستعمل بعده عميد الدولة أبو علي بن صدقة، ولقب جلال الدين، وهذا الوزير، وهو عماد الملك الوزير جلال الدين أبي الرضا صدقة، الذي وزر للراشد، والأتابك زنكي على ما نذكره.
وفيها ظهر قبر إبراهيم الخليل، وقبرا ولديه إسحاق ويعقوب، عليهم السلام، بالقرب من البيت المقدس، ورآهم كثير من الناس لم تبلَ أجسادهم، وعندهم في المغارة قناديل من ذهب وفضة، هكذا ذكره حمزة بن أسد التميمي في تاريخه، والله أعلم.
وفيها، في المحرم، توفي قاضي القضاة أبو الحسن علي بن محمد الدامغاني، ومولده في رجب سنة تسع وأربعين وأربعمائة، وولي القضاء بباب الطاق من بغداد إلى الموصل وله من العمر ست وعشرون سنة، وهذا شيء لم يكن لغيره، ولما توفي ولي قضاء القضاة الأكمل أبو القاسم علي بن أبي طالب الحسين بن محمد الزينبي، وخلع عليه ثالث صفر.
وفيها هدم تاج الخليفة على دجلة للخوف من انهدامه، وهذا التاج بناه أمير المؤمنين المكتفي بعد سنة تسعين ومائتين.
وفيها تأخر الحج، فاستغاث الناس، وأرادوا كسر المنبر بجامع القصر، فأرسل الخليفة إلى دبيس بن صدقة ليساعد الأمير نظر على تسيير الحجاج، فأجاب إلى ذلك، وكان خروجهم من بغداد ثاني عشر ذي القعدة، وتوالت عليهم الأمطار إلى الكوفة.
وفيها أرسل دبيس بن صدقة القاضي أبا جعفر عبد الواحد بن أحمد الثقفي، قاضي الكوفة، إلى إيلغازي بن أرتق بماردين، يخطب ابنته، فزوجها منه إيلغازي، وحملها الثقفي معه إلى الحلة، واجتاز بالموصل.
وفيها، في جمادى الأولى، توفي أبو الوفا علي بن عقيل بن محمد بن عقيل، شيخ الحنابلة، في وقته، ببغداد، وكان حسن المناظرة، سريع الخاطر، وكان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على أبي الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة حتى تمكن من الظهور، وله مصنفات من جملتها كتاب الفنون. ثم دخلت:

.سنة أربع عشرة وخمسمائة:

.ذكر عصيان الملك مسعود على أخيه محمود والحرب بينهما:

في هذه السنة، في ربيع الأول، كان المصاف بين السلطان محمود وأخيه الملك مسعود، ومسعود حينئذ له الموصل وأذربيجان.
وكان سبب ذلك أن دبيس بن صدقة كان يكاتب جيوش بك أتابك مسعود، يحثه على طلب السلطنة للملك مسعود، ويعده المساعدة، وكان غرضه أن يختلفوا فينال من الجاه وعلو المنزلة ما ناله أبوه باختلاف السلطانين بركيارق ومحمد ابني ملكشاه على ما ذكرناه.
وكان قسيم الدولة البرسقي، أتابك الملك مسعود، قد فارق شحنكية بغداد، وقد أقطعه مسعود مراغة، مضافة إلى الرحبة، وبينه وبين دبيس عداوة محكمة، فكاتب دبيس جيوش بك يشير عليه بقبض البرسقي، وينسبه إلى الميل إلى السلطان محمود، وبذل له مالاً كثيراً على قبضه، فعلم البرسقي ذلك، ففارقهم إلى السلطان محمود، فأكرمه وأعلى محله وزاد في تقديمه.
واتصل الأستاذ أبو إسماعيل الحسين بن علي الأصبهاني الطغرائي بالملك مسعود، فكان ولده أبو المؤيد، محمد بن أبي إسماعيل، يكتب الطغراء مع الملك، فلما وصل والده استوزره مسعود، بعد أن عزل أبا علي بن عمار، صاحب طرابلس، سنة ثلاث عشرة بباب خوي، فحسن ما كان دبيس يكاتب به من مخالفة السلطان محمود والخروج عن طاعته.
وظهر ما هم عليه من ذلك، فبلغ السلطان محموداً الخبر، فكتب إليهم يخوفهم إن خالفوه، ويعدهم الإحسان إن أقاموا على طاعته وموافقته، فلم يصغوا إلى قوله، وأظهروا ما كانوا عليه، وما يسرونه، وخطبوا للملك مسعود بالسلطنة، وضربوا له النوب الخمس، وكان ذلك على تفرق من عساكر السلطان محمود، فقوي طمعهم، وأسرعوا السير إليه ليلقوه وهو مخفف من العساكر، فاجتمع إليه خمسة عشر ألفاً، فسار أيضاً إليهم، فالتقوا عند عقبة أسداباذ، منتصف ربيع الأول، واقتتلوا من بكرة إلى آخر النهار.
وكان البرسقي في مقدمة السلطان محمود، وأبلى يومئذ بلاء حسناً، فانهزم عسكر الملك مسعود، آخر النهار، وأسر منهم جماعة كثيرة من أعيانهم ومقدميهم، وأسر الأستاذ أبو إسماعيل وزير مسعود، فأمر السلطان بقتله، وقال: قد ثبت عندي فساد دينه واعتقاده، فكانت وزارته سنة وشهراً، وقد جاوز ستين سنة، وكان حسن الكتابة والشعر، يميل إلى صنعة الكيمياء، وله فيها تصانيف قد ضيعت من الناس أموالاً لا تحصى.
وأما الملك مسعود فإنه لما انهزم أصحابه وتفرقوا قصد جبلاً بينه وبين الوقعة اثنا عشر فرسخاً، فاختفى فيه ومعه غلمان صغار، فأرسل ركابية عثمان إلى أخيه يطلب له الأمان، فسار إلى السلطان محمود وأعلمه حال أخيه مسعود، فرق له، وبذل له الأمان، وأمر آقسنقر البرسقي بالمسير إليه، وتطييب قلبه، وإعلامه بعفوه عنه، وإحضاره، فكان مسعود بعد أن أرسل يطلب الأمان قد وصل بعض الأمراء إليه، وحسن له اللحاق بالموصل، وكانت له، ومعها أذربيجان، وأشار عليه بمكاتبة دبيس بن صدقة ليجتمع به، ويكثر جمعه، ويعاود طلب السلطنة، فسار معه من مكانه.
ووصل البرسقي فلم يره، فأخبر بمسيره، فسار في أثره، وعزم على طلبه ولو إلى الموصل، وجد في السير، فأدركه على ثلاثين فرسخاً من مكانه ذلك، وعرفه عفو أخيه عنه، وضمن له ما أراد، وأعاده إلى العسكر، فأمر السلطان محمود العساكر باستقباله وتعظيمه، ففعلوا ذلك، وأمر السلطان أن ينزل عند والدته، وجلس له، وأحضره، واعتنقا، وبكيا، وانعطف عليه محمود، ووفى له بما بذله، وخلطه بنفسه في كل أفعاله، فعد ذلك من مكارم محمود، وكانت الخطبة بالسلطنة لمسعود بأذربيجان، وبلد الموصل، والجزيرة، ثمانية وعشرين يوماً.
وأما أتابكه جيوش بك فإنه سار إلى عقبة أسادباذ، وانتظر الملك مسعوداً، فلم يره، وانتظر بمكان آخر، فلم يصل إليه، فلما أيس منه سار إلى الموصل، ونزل بظاهرها، وجمع الغلات من السواد إليها، واجتمع إليه عسكره، فلما سمع بما فعله السلطان مع أخيه، وأنه عنده، علم أنه لا مقام له على هذا الحال، فسار كأنه يريد الصيد، فوصل إلى الزاب، وقال لمن معه: إنني قد عزمت على قصد السلطان محمود، وأخاطر بنفسي، فسار إليه، فوصل وهو بهمذان، ودخل إليه، فطيب قلبه وأمنه، وأحسن إليه.
وأما دبيس بن مزيد فإنه كان بالعراق، فلما بلغه خبر انهزام الملك مسعود نهب البلاد وخربها، وفعل فيها الأفاعيل القبيحة، إلى أن أتاه رسول السلطان محمود، وطيب قلبه، فلم يلتفت.

.ذكر حال دبيس وما كان منه:

لما كان منه ببغداد وسوادها من النهب والقتل والفساد ما لم يجر مثله، أرسل إليه الخليفة المسترشد بالله رسالة ينكر عليه، ويأمره بالكف، فلم يفعل، فأرسل إليه السلطان وطيب قلبه، وأمره بمنع أصحابه عن الفساد، فلم يقبل، وسار بنفسه إلى بغداد، وضرب سرادقه بإزاء دار الخلافة، وأظهر الضغائن التي في نفسه، وكيف طيف برأس أبيه، وتهدد الخليفة، وقال: إنك أرسلت تستدعي السلطان، فإن أعدتموه، وإلا فعلت وصنعت. فأعيد جواب رسالته: أن عود السلطان، وقد سار عن همذان، غير ممكن، ولكنا نصلح حالك معه.
وكان الرسول شيخ الشيوخ إسماعيل، فكف على أن تسير الرسل في الاتفاق بينه وبين السلطان، وعاد عن بغداد في رجب.
ووصل السلطان في رجب إلى بغداد، فأرسل دبيس زوجته ابنة عميد الدولة بن جهير إليه، ومعها مال كثير، وهدية نفيسة، وسأل الصفح عنه، فأجيب إلى ذلك على قاعدة امتنع منها، ولزم لجاجه، ونهب جشيراً للسلطان. فسار السلطان عن بغداد، في شوال، إلى قصد دبيس بالحلة، واستصحب ألف سفينة ليعبر فيها، فلما علم دبيس مسير السلطان أرسل يطلب الأمان، فأمنه، وكان قصده أن يغالطه ليتجهز، فأرسل نساءه إلى البطيحة، وأخذ أمواله وسار عن الحلة، بعد أن نهبها، إلى إيلغازي ملتجأً إليه، ووصل السلطان إلى الحلة، فلم ير أحداً، فبات بها ليلة واحدة وعاد.
وأقام دبيس عند إيلغازي، وتردد معه، ثم إنه أرسل أخاه منصوراً في جيش من قلعة جعبر إلى العراق، فنظر الحلة، والكوفة، وانحدر إلى البصرة، وأرسل إلى يرنقش الزكوي يسأله أن يصلح حاله مع السلطان، فلم يتم أمره، فأرسل إلى أخيه دبيس يعرفه ذلك، ويدعوه إلى العراق، فسار من قلعة جعبر إلى الحلة سنة خمس عشرة، فدخلها وملكها، وأرسل إلى الخليفة والسلطان يعتذر، ويعد من نفسه الطاعة، فلم يجب إلى ذلك.
وسيرت إليه العساكر، فلما قاربوه فارق الحلة، ودخل إلى الأزير، وهو نهر سنداد، ووصل العسكر إليها وهي فارغة قد أجلي أهلها عنها، وليس بها إقامة، فكانت الميرة تنقل من بغدد، وكان مقدم العسكر سعد الدولة يرنقش الزكوي، فترك بالحلة خمسمائة فارس، وبالكوفة جماعة أخرى تحفظ الطريق على دبيس، وأرسل إلى عسكر واسط يحفظ طريق البطيحة، ففعلوا ذلك، وعبر عسكر السلطان إلى دبيس، فبقي بين الطائفتين نهر يخاض فيه مواضع، فتراسل يرنقش ودبيس، واتفقا على أن يرسل دبيس أخاه منصوراً رهيناً، ويلازم الطاعة، ففعل، وعاد العسكر إلى بغداد سنة ست عشرة.

.ذكر خروج الكرج إلى بلاد الإسلام وملك تفليس:

في هذه السنة خرج الكرج، وهم الخزر، إلى بلاد الإسلام، وكانوا قديماً يغيرون، فامتنعوا أيام السلطان ملكشاه إلى آخر أيام السلطان محمد، فلما كانت هذه السنة خرجوا ومعهم قفجاق وغيرهم من الأمم المجاورة لهم، فتكاتب الأمراء المجاورون لبلادهم، واجتمعوا، منهم: الأمير إيلغازي، ودبيس بن صدقة، وكان عنده، والملك طغرل بن محمد، وأتابكه كنتغدي، وكان لطغرل بلد أران، ونقجوان إلى أرس، فاجتمعوا وساروا إلى الكرج، فلما قاربوا تفليس، وكان المسلمون في عسكر كثير يبلغون ثلاثين ألفاً، التقوا واصطفت الطائفتان للقتال، فخرج من القفجاق مائتا رجل، فظن المسلمون أنهم مستأمنون، فلم يحترزوا منهم، ودخلوا بينهم، ورموا بالنشاب، فاضطرب صف المسلمين، فظن من بعد أنها هزيمة، فانهزموا، وتبع الناس بعضهم بعضاً منهزمين، ولشدة الزحام صدم بعضهم بعضاً، فقتل منهم عالم عظيم.
وتبعهم الكفار عشرة فراسخ يقتلون ويأسرون، فقتل أكثرهم، وأسروا أربعة آلاف رجل، ونجا الملك طغرل، وإيلغازي، ودبيس، وعاد الكرج فنهبوا بلاد الإسلام، وحصروا مدينة تفليس، واشتد قتالهم لمن بها، وعظم الأمر، وتفاقم الخطب على أهلها، ودام الحصار إلى سنة خمس عشة فملكوها عنوة.
وكان أهلها لما أشرفوا على الهلاك قد أرسلوا قاضيها وخطيبها إلى الكرج في طلب الأمان، فلم تصغ الكرج إليهما فأخرقوا بهما، ودخلوا البلد قهراً وغلبة، واستباحوه ونهبوه، ووصل المستنفرون منهم إلى بغداد مستصرخين ومستنصرين سنة ست عشرة، فبلغهم أن السلطان محموداً بهمذان، فقصدوه واستغاثوا به فسار إلى أذربيجان، وأقام بمدينة تبريز شهر رمضان، وأنفذ عسكراً إلى الكرج، وسيرد ذكر ما كان منهم، إن شاء الله تعالى.

.ذكر غزوات إيلغازي هذه السنة:

في هذه السنة أرسل المسترشد بالله خلعاً مع سديد الدولة بن الأنباري لنجم الدين إيلغازي، وشكره على ما يفعله من غزو الفرنج، ويأمره بإبعاد دبيس عنه، وسار أبو علي بن عمار الذي كان صاحب طرابلس، مع ابن الأنباري إلى إيلغازي ليقيم عنده، يعبر الأوقات بما ينعم به عليه، فاعتذر عن إبعاد دبيس، ووعد به، ثم سار إلى الفرنج، وكان قد جمع لهم جمعاً، فالتقوا بموضع اسمه ذات البقل من أعمال حلب، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكان الظفر له.
ثم اجتمع إيلغازي وأتابك طغتكين، صاحب دمشق، وحصروا الفرنج في معرة قنسرين يوماً وليلة، ثم أشار أتابك طغتكين بالإفراج عنهم، كيلا يحملهم الخوف على أن يستقتلوا ويخرجوا إلى المسلمين، فربما ظفروا، وكان أكثر خوفه من دبر خيل التركمان، وجودة خيل الفرنج، فأفرج لهم إيلغازي، فساروا عن مكانهم وتخلصوا، وكان إيلغازي لا يطيل المقام في بلد الفرنج لأنه كان يجمع التركمان للطمع، فيحضر أحدهم ومعه جراب فيه دقيق، وشاة، ويعد الساعات لغنيمة يتعجلها، ويعود، فإذا طال مقامهم تفرقوا، ولم يكن له من الأموال ما يفرقها فيهم.

.ذكر ابتداء أمر محمد بن تومرت وعبد المؤمن وملكهما:

في هذه السنة كان ابتداء أمر المهدي أبي عبد الله محمد بن عبد الله بن تومرت العلوي، الحسني، وقبيلته من المصامدة، تعرف بهرغة في جبل السوس، من بلاد المغرب، نزلوا به لما فتحه المسلمون مع موسى بن نصير، ونذكر أمره وأمر عبد المؤمن هذه السنة إلى أن فرغ من ملك المغرب لنتبع بعض الحادثة بعضاً.
وكان ابن تومرت قد رحل في شبيبته إلى بلاد الشرق في طلب العلم، وكان فقيهاً، فاضلاً، عالماً بالشريعة، حافظاً للحديث، عارفاً بأصولي الدين والفقه، متحققاً بعلم العربية، وكان ورعاً، ناسكاً، ووصل في سفره إلى العراق، واجتمع بالغزالي، والكيا، واجتمع بأبي بكر الطرطوشي بالإسكندرية، وقيل إنه جرى له حديث مع الغزالي فيما فعله بالمغرب من التملك، فقال له الغزالي: إن هذا لا يتمشى في هذه البلاد، ولا يمكن وقوعه لأمثالنا.
كذا قال بعض مؤرخي المغرب، والصحيح أنه لم يجتمع به، فحج من هناك وعاد إلى المغرب، ولما ركب البحر من الإسكندرية، مغرباً، غير المنكر في المركب، وألزم من به بإقامة الصلاة، وقراءة القرآن، حتى انتهى إلى المهدية، وسلطانها حينئذ يحيى بن تميم، سنة خمس وخمسمائة، فنزل بمسجد قبلي مسجد السبت، وليس له سوى ركوة، وعصاً، وتسامع به أهل البلد، فقصدوه يقرأون عليه أنواع العلوم، وكان إذا مر به منكر غيره وأزاله، فلما كثر ذلك منه أحضره الأمير يحيى مع جماعة من الفقهاء، فلما رأى سمته وسمع كلامه أكرمه واحترمه، وسأله الدعاء.
ورحل عن المدينة وأقام بالمنستير مع جماعة من الصالحين، مدة، وسار إلى بجاية ففعل فيها مثل ذلك، فأخرج منها إلى قرية بالقرب منها اسمها ملالة، فلقيه بها عبد المؤمن بن علي، فرأى فيه من النجابة والنهضة ما تفرس فيه التقدم، والقيام بالأمر، فسأله عن اسمه وقبيلته، فأخبره أنه من قيس عيلان، ثم من بني سليم، فقال ابن تومرت: هذا الذي بشر به النبي، صلى الله عليه وسلم، حين قال: «إن الله ينصر هذا الدين، في آخر الزمان، برجل من قيس» فقيل: من أي قيس؟ فقال: «من بني سليم». فاستبشر بعبد المؤمن وسر بلقائه، وكان مولد عبد المؤمن في مدينة تاجرة، من أعمال تلمسان، وهو عائذ، قبيل من كومرة، نزلوا بذلك الإقليم سنة ثمانين ومائة.
ولم يزل المهدي ملازماً للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في طريقه إلى أن وصل إلى مراكش دار مملكة أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، فرأى فيها من المنكرات أكثر مما عاينه في طريقه، فزاد في أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، فكثر أتباعه، وحسنت ظنون الناس فيه، فبينما هو في بعض الأيام في طريقه، إذ رأى أخت أمير المسلمين في موكبها، ومعها من الجواري الحسان عدة كثيرة، وهن مسفرات، وكانت هذه عادة الملثمين يسفر نساؤهم عن وجوههن، ويتلثم الرجال، فحين رأى النساء كذلك أنكر عليهن، وأمرهن بستر وجوههن وضرب هو وأصحابه دوابهن، فسقطت أخت أمير المسلمين عن دابتها، فرفع أمره إلى أمير المسلمين علي بن يوسف، فأحضره، وأحضر الفقهاء ليناظروه، فأخذ يعظه ويخوفه، فبكى أمير المسلمين، وأمر أن يناظره الفقهاء، فلم يكن فيهم من يقوم له لقوة أدلته في الذي فعله.
وكان عند أمير المسلمين بعض وزرائه يقال له مالك بن وهيب، فقال: يا أمير المسلمين، إن هذا والله لا يريد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإنما يريد إثارة فتنة، والغلبة على بعض النواحي، فاقتله وقلدني دمه. فلم يفعل ذلك، فقال: إن لم تقتله فاحبسه، وخلده في السجن، وإلا أثار شراً لا يمكن تلافيه. فأراد حبسه، فمنعه رجل من أكابر الملثمين يسمى بيان بن عثمان، فأمر بإخراجه من مراكش، فسار إلى أغمات، ولحق بالجبل، فسار فيه، حتى التحق بالسوس الذي فيه قبيلة هرغة وغيرهم من المصامدة سنة أربع عشرة، فأتوه، واجتمعوا حوله.
وتسامع به أهل تلك النواحي، فوفدوا عليه، وحضر أعيانهم بين يديه، وجعل يعظهم، ويذكرهم بأيام الله، ويذكر لهم شرائع الإسلام، وما غير منها، وما حدث من الظلم والفساد، وأنه لا يجب طاعة دولة من هذه الدول لاتباعهم الباطل، بل الواجب قتالهم، ومنعهم عما هم فيه، فأقام على ذلك نحو سنة، وتابعته هرغة قبيلته، وسمى أتباعه الموحدين، وأعلمهم أن النبي صلى الله عليه وسلم، بشر بالمهدي الذي يملأ الأرض عدلاً، وأن مكانه الذي يخرج منه المغرب الأقصى، فقام إليه عشرة رجال، أحدهم عبد المؤمن، فقالوا لا يوجد هذا إلا فيك فأنت المهدي، فبايعوه على ذلك.
فانتهى خبره إلى أمير المسلمين، فجهز جيشاً من أصحابه وسيرهم إليه، فلما قربوا من الجبل الذي هو فيه قال لأصحابه: إن هؤلاء يريدونني، وأخاف عليكم منهم، فالرأي أن أخرج بنفسي إلى غير هذه البلاد لتسلموا أنتم. فقال له ابن توفيان من مشايخ هرغة: هل تخاف شيئاً من السماء؟ فقال: لا، بل من السماء تنصرون، فقال ابن توفيان: فليأتنا كل من في الأرض. ووافقه جميع قبيلته، فقال المهدي: أبشروا بالنصر بهذه الشرذمة، وبعد قليل تستأصلون دولتهم، وترثون أرضهم. فنزلوا من الجبل، ولقوا جيش أمير المسلمين، فهزموهم، وأخذوا أسلابهم، وقوي ظنهم في صدق المهدي، حيث ظفروا كما ذكر لهم.
وأقبلت إليه أفرواج القبائل، من الحلل التي حوله، شرقاً وغرباً، وبايعوه، وأطاعته قبيلة هنتانة، وهي من أقوى القبائل، فأقبل عليهم، واطمأن إليهم، وأتاه رسل أهل تين ملل بطاعتهم، وطلبوه إليهم، فتوجه إلى جبل تين ملل واستوطنه، وألف لهم كتاباً في التوحيد، وكتاباً في العقيدة، ونهج لهم طريق الأدب بعضهم مع بعض، والاقتصار على القصير من الثياب، القليل الثمن، وهو يحرضهم على قتال عدوهم، وإخراج الأشرار من بين أظهرهم.
وأقام بتين ملل وبنى له مسجداً خارج المدينة، فكان يصلي فيه وجمع ممن معه عنده، ويدخل البلد بعد العشاء الآخرة، فلما رأى كثرة أهل الجبل، وحصانة المدينة، خاف أن يرجعوا عنه، فأمرهم أن يحضروا بغير سلاح، ففعلوا ذلك عدة أيام، ثم أمر أصحابه أن يقتلوهم، فخرجوا عليهم وهم غارون فقتلوهم في ذلك المسجد، ثم دخل المدينة فقتل فيها وأكثر، وسبى الحريم ونهب الأموال، فكان عدة القتلى خمسة عشر ألفاً، وقسم المساكن والأرض بين أصحابه، وبنى على المدينة سوراً، وقلعة على رأس جبل عال.
وفي جبل تين ملل أنهار جارية، وأشجار، وزروع، والطريق إليه صعب، فلا جبل أحصن منه، وقيل: إنه لما خاف أهل تين ملل نظر، فرأى كثير من أولادهم شقراً زرقاً، والذي يغلب على الآباء السمرة، وكان لأمير المسلمين عدة كثيرة من المماليك الفرنج والروم، ويغلب على ألوانهم الشقرة، وكانوا يصعدون الجبل في كل عام مرة، ويأخذون ما لهم فيه من الأموال المقررة لهم من جهة السلطان، فكانوا يسكنون بيوت أهله، ويخرجون أصحابها منها، فلما رأى المهدي أولادهم سألهم: مالي أراكم سمر الألوان، وأرى أولادكم شقراً، زرقاً؟ فأخبروه خبرهم مع مماليك أمير المسلمين، فقبح الصبر على هذا، وأزرى عليهم، وعظم الأمر عندهم، فقالوا له: فكيف الحيلة في الخلاص منهم، وليس لنا بهم قوة؟ فقال: إذا حضروا عندكم في الوقت المعتاد، وتفرقوا في مساكنهم، فليقم كل رجل منكم إلى نزيله فيقتله، واحفظوا جبلكم، فإنه لا يرام ولا يقدر عليه. فصبروا حتى حضر أولئك العبيد، فقتلوهم على ما قرر لهم المهدي، فلما فعلوا ذلك خافوا على نفوسهم من أمير المسلمين، فامتنعوا في الجبل، وسدوا ما فيه من طريق يسلك إليهم، فقويت نفس المهدي بذلك.
ثم إن أمير المسلمين أرسل إليهم جيشاً قوياً، فحصروهم في الجبل، وضيقوا عليهم، ومنعوا عنهم الميرة، فقلت عند أصحاب المهدي الأقوات، حتى صار الخبز معدوماً عندهم، وكان يطبخ لهم كل يوم من الحساء ما يكفيهم، فكان قوت كل واحد منهم أن يغمس يده في ذلك الحساء ويخرجها، فما علق عليها قنع به ذلك اليوم، فاجتمع أعيان أهل تين مل، وأرادوا إصلاح الحال مع أمير المسلمين، فبلغ الخبر بذلك المهدي بن تومرت، وكان معه إنسان يقال له أبو عبد الله الونشريشي، يظهر البله، وعدم المعرفة بشيء من القرآن والعلم، وبزاقه يجري على صدره، وهو كأنه معتوه، ومع هذا فالمهدي يقربه، ويكرمه، ويقول: إن لله سراً في هذا الرجل سوف يظهر.
وكان الونشريشي يلزم الاشتغال بالقرآن والعلم في السر بحيث لا يعلم أحد ذلك منه، فلما كان سنة تسع عشرة وخاف المهدي من أهل الجبل، خرج يوماً لصلاة الصبح، فرأى إلى جانب محرابه إنساناً حسن الثياب، طيب الريح، فأظهر أنه لا يعرفه، وقال: من هذا؟ فقال: أنا أبو عبد الله الونشريشي! فقال له المهدي: إن أمرك لعجب! ثم صلى، فلما فرغ من صلاته نادى في الناس فحضروا، فقال: إن هذا الرجل يزعم أنه الونشريشي، فانظروه، وحققوا أمره. فلما أضاء النهار عرفوه، فقال له المهدي: ما قصتك؟ قال: إنني أتاني الليلة ملك من السماء، فغسل قلبي، وعلمني الله القرآن، والموطأ، وغيره من العلوم والأحاديث. فبكى المهدي بحضرة الناس، ثم قال له: نحن نمتحنك، فقال: افعل.
وابتدأ يقرأ القرآن قراءة حسنة من أي موضع سئل، وكذلك الموطأ، وغيره من كتب الفقه والأصول، فعجب الناس من ذلك، واستعظموه.
ثم قال لهم: إن الله تعالى قد أعطاني نوراً أعرف به أهل الجنة من أهل النار، وآمركم أن تقتلوا أهل النار، وتتركوا أهل الجنة، وقد أنزل الله تعالى ملائكة إلى البئر التي في المكان الفلاني يشهدون بصدقي.
فسار المهدي، والناس معه وهم يبكون، إلى تلك البئر، وصلى المهدي عند رأسها، وقال: يا ملائكة الله، إن أبا عبد الله الونشريشي قد زعم كيت وكيت، فقال من بها: صدق! وكان قد وضع فيها رجالاً يشهدون بذلك، فلما قيل ذلك من البئر، قال المهدي: إن هذه مطهرة مقدسة قد نزل إليها الملائكة، والمصلحة أن تطم لئلا يقع فيها نجاسة، أو ما لا يجوز، فألقوا فيها من الحجارة والتراب ما طمها، ثم نادى في أهل الجبل بالحضور إلى ذلك المكان، فحضروا للتمييز، فكان الونشريشي يعمد إلى الرجل الذي يخاف ناحيته، فيقول: هذا من أهل النار، فيلقى من الجبل مقتولاً، وإلى الشاب الغر، ومن لا يخشى، فيقول: هذا من أهل الجنة، فيترك على يمينه، فكان عدة القتلى سبعين ألفاً. فلما فرغ من ذلك أمن على نفسه وأصحابه واستقام أمره.
هكذا سمعت جماعة من فضلاء المغاربة يذكرون في التمييز، وسمعت منهم من يقول: إن ابن تومرت لما رأى كثرة أهل الشر والفساد في أهل الجبل، أحضر شيوخ القبائل، وقال لهم: إنكم لا يصح لكم دين، ولا يقوى إلا بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإخراج المفسد من بينكم، فابحثوا عن كل ما عندكم من أهل الشر والفساد، فانهوهم عن ذلك، فإن انتهوا، وإلا فاكتبوا أسماءهم وارفعوها إلي لأنظر في أمرهم. ففعلوا ذلك، وكتبوا له أسماءهم من كل قبيلة، ثم أمرهم بذلك مرة ثانية، وثالثة، ثم جمع المكتوبات فأخذه منها ما تكرر من الأسماء فأثبتها عنده، ثم جمع الناس قاطبة، ورفع الأسماء التي كتبها، ودفعها إلى الونشريشي المعروف بالبشير، وأمره أن يعرض القبائل، ويجعل أولئك المفسدين في جهة الشمال، ومن عداهم في جهة اليمين، ففعل ذلك، وأمر أن يكتف من على شمال الونشريشي، فكتفوا، وقال: إن هؤلاء أشقياء قد وجب قتلهم، وأمر كل قبيلة أن يقتلوا أشقياءهم، فقتلوا عن آخرهم فكان يوم التمييز.
ولما فرغ ابن تومرت من التمييز، رأى أصحابه الباقين على نيات صادقة، وقلوب متفقة على طاعته، فجهز منهم جيشاً وسيرهم إلى جبال أغمات، وبها جمع من المرابطين، فقاتلوهم، فانهزم أصحاب ابن تومرت، وكان أميرهم أبو عبد الله الونشريشي، وقتل منهم كثير، وجرح عمر الهنتاتي، وهو من أكبر أصحابه، وسكن حسه ونبضه، فقالوا: مات! فقال الونشريشي: أما إنه لم يمت، ولا يموت حتى يملك البلاد. فبعد ساعة فتح عينيه، وعادت قوته إليه، فافتتنوا به، وعادوا منهزمين إلى ابن تومرت، فوعظهم، وشكرهم على صبرهم.
ثم لم يزل بعدها يرسل السرايا في أطراف بلاد المسلمين، فإذا رأوا عسكراً تعلقوا بالجبل فأمنوا. وكان المهدي قد رتب أصحابه مراتب، فالأولى يسمون أيت عشرة يعني أهل عشرة، وأولهم عبد المؤمن، ثم أبو حفص الهنتاتي، وغيرهما، وهم أشرف أصحابه، وأهل الثقة عنده، والسابقون إلى متابعته، والثانية: أيت خمسين، يعني أهل خمسين، وهم دون تلك الطبقة، وهم جماعة من رؤساء القبائل، والثالثة: أيت سبعين، يعني أهل سبعين، وهم دون التي قبلها، وسمي عامة أصحابه والداخلين في طاعته موحدين، فإذا ذكر الموحدون في أخبارهم فإنما يعنى أصحابه وأصحاب عبد المؤمن بعده.
ولم يزل أمر ابن تومرت يعلو إلى سنة أربع وعشرين، فجهز المهدي جيشاً كثيفاً يبلغون أربعين ألفاً، أكثرهم رجالة، وجعل عليهم الونشريشي، وسير معهم عبد المؤمن، فنزلوا وساروا إلى مراكش فحصروها، وضيقوا عليها، وبها أمير المسلمين علي بن يوسف، فبقي الحصار عليها عشرين يوماً، فأرسل أمير المسلمين إلى متولي سجلماسة يأمره أن يحضر ومعه الجيوش، فجمع جيشاً كثيراً وسار، فلما قارب عسكر المهدي خرج أهل مراكش من غير الجهة التي أقبل منها، فاقتتلوا، واشتد القتال، وكثر القتل في أصحاب المهدي، فقتل الونشريشي أميرهم، فاجتمعوا إلى عبد المؤمن وجعلوه أميراً عليهم.
ولم يزل القتال بينهم عامة النهار، وصلى عبد المؤمن صلاة الخوف، الظهر والعصر، والحرب قائمة، ولم تصل بالمغرب قبل ذلك، فلما رأى المصامدة كثرة المرابطين، وقوتهم، أسندوا ظهورهم إلى بستان كبير هناك، والبستان يسمى عندهم البحيرة، فلهذا قيل وقعة البحيرة، وعام البحيرة، وصاروا يقاتلون من جهة واحدة إلى أن أدركهم الليل، وقد قتل من المصامدة أكثرهم، وحين قتل الونشريشي دفنه عبد المؤمن، فطلبه المصامدة، فلم يروه في القتلى، فقالوا: رفعته الملائكة، ولما جنهم الليل سار عبد المؤمن ومن سلم من القتلى إلى الجبل.